الفيلم لا يسمح للقطات التقريرية ذات الغرض التوثيقي بالطغيان على فاعلية السرد
تغدو قضية اللجوء الإنساني يوما بعد آخر من أكثر القضايا العالمية المعاصرة إلحاحا على الصعيدين السياسي والإنساني؛ إذ أصبحت تشغل الحيز الأكبر من اهتمام وخطاب معظم الأحزاب السياسية في العديد من الدول الأوروبية والشرق أوسطية، في حين تستمر أعداد اللاجئين وعذاباتهم في ازدياد.
ولكن يتم غالبا تناول قضايا هؤلاء اللاجئين بوصفهم أرقاما أو أوراق ضغط سياسية أو ظاهرة سياسية ومجتمعية سلبية لا بد من الحد منها، في حين ينجح فيلم “بسيط كالماء” (Simple as Water) -للمخرجة الحائزة على جائزة الأوسكار ميغان ميلان- في تسليط الضوء على الجانب الإنساني من حياة اللاجئين وبيان التعقيدات الفريدة لكل حالة فردية أو عائلية من حالاتهم.
يتابع فيلم بسيط كالماء -من إنتاج شبكة “إتش بي أو” (HBO)- قصص 4 عائلات سورية على مدار 5 أعوام في 5 دول؛ تركيا، واليونان، وألمانيا، والولايات المتحدة الأميركية، وسوريا؛ ليرصد من خلالها أبرز العقبات التي تواجه تلك العائلات ويرافقهم في رحلتهم للتكيف أو البحث عن الأمن والاستقرار.
أمهات في مهب الريح
نشاهد مع بداية الفيلم ياسمين (أم ونازحة سورية) تقوم بأعمال روتينية إلى جانب صغارها في خيمة من مئات الخيام المصطفة على طول حوض بناء السفن في العاصمة اليونانية أثينا، حيث تنتظر بفارغ الصبر الموافقة على لمّ شملها مع زوجها صفوان في ألمانيا.
يخبر أحد المستشارين في مركز الهجرة ياسمين أن أوراق لمّ شملها قد تستغرق 10 أشهر؛ مما يحملها على القول ساخطة “سأعود إلى سوريا فحسب”، وهي لن تعود بالطبع، ولكنها تلخص شعور آلاف اللاجئين حيال صرامة البيروقراطية في دول اللجوء الأوروبية، وما قد تتسبب فيه من أضرار لتلك العائلات التي تعيش ظروفا قاسية في الدول الفقيرة.
يمكن اعتبار قصة ياسمين بداية متفائلة للمخرجة ميغان ميلان قياسا بقصة سمرة (أم لـ5 أطفال) التي تعمل في تركيا بدوام كامل لتعيل أطفالها. فلقد قُبض على زوجها من قبل قوات النظام ونزحت وأطفالها إلى تركيا بحثا عن بيئة أكثر استقرارا وأمانا.
تحاول سمرة إدخال أطفالها إلى دار للأيتام حتى تتمكن من العمل، لكن الطفل الأكبر فايز (12 عاما) -الذي يرعى إخوته- لا يبدو أنه يرغب في ذلك، ويقول “أريد أن أكون والدهم؛ لا أريدهم أن يشعروا بأنهم فقدوا والدهم، لذلك يمكنني تدبر أمرهم”. لقد فقد فايز -مثل كثير من أطفال سوريا- شعوره بالطفولة والحاجة إلى اللهو على حساب المسؤولية المبكرة التي فرضتها عليه نتائج الحرب في بلده.
تقول ميغان ميلان عن فيلمها -الذي تم عرضه للمرة الأولى في مهرجان تريبيكا السينمائي- “أفكر في بسيط كالماء بوصفه قصة حب عائلية تحتفي بالروابط البدائية بين الأهل وأبنائهم”.
وهذا ما يبدو جليا في الفيلم، حيث لا تخلو قصة من قصصه من مشاهد حميمية بين الأمهات وأبنائهن أو بين الإخوة وإخوتهم والآباء وأبنائهم، بما فيها من مشاهد الحزن والانتظار التي تتسم بكثير من الحب والرعاية والكفاح.
تحديات الأبطال وصناع الفيلم
ينقلنا الفيلم من تركيا إلى الولايات المتحدة لنشاهد عمر (مهاجر سوري وسائق توصيل في ولاية بنسلفانيا) وهو يحاول الاندماج في الثقافة الأميركية، ولكن سرعان ما يتلقى أخبارا سيئة عن وضعه كلاجئ بسبب ارتباطاته السابقة بالجيش الحر، وهو فصيل سوري من فصائل الثورة.
يخشى عمر ترحيله ولكنه يخشى أكثر على شقيقه الذي فقد أحد أطرافه بعد إصابته إثر هجوم صاروخي على منطقته في سوريا، ويحاولان معا التأقلم مع الحياة الجديدة في الولايات المتحدة وحل عقبات لجوئهما.
وفي الجزء الرابع من الفيلم ننتقل إلى سوريا، حيث نجحت فتاتان سوريتان متعاونتان باسمين مستعارين من تسجيل قصة ضياء، وهي أم فقدت ابنها محمد قبل 5 أعوام ولا تزال تبحث عنه.
تعكس القصّة إصرار الأم عندما يتعلق الأمر بحياة ابنها، وهي فصل جديد من فصول مأساة الأمهات السوريات اللاتي فقدن أبنائهن قتلا أو خطفًا أو اختفاءً، لا تيأس ضياء وإنما تحاول جاهدة الإبقاء على الأمل حيًّا من خلال بحثها عبر مواقع التواصل عن ابنها الذي يُعتقد أنه اختفى في صفوف تنظيم الدولة الإسلامية.
تقول ضياء “من أجل ابني قد أذهب إلى آخر الدنيا”، ومن أجل ابنها الآخر الذي يشاركها السكن تبقى في المنزل تحنو عليه وتساعده للتأقلم مع إعاقته من دون أن تقطع الأمل من عودة ابنها الغائب.
لم يخلُ تسجيل هذه القصة من العقبات والصعاب، فلم تُقدم ميلان على إقحام نفسها وطاقم عملها في مغامرة الذهاب للتصوير في الداخل السوري، ومع ذلك لم تتخل عن الفكرة؛ حيث تم تسجيل هذه القصة بواسطة معدات الكاميرا الخفية مع المعدات المخبأة في الألعاب والحفاضات، وتم توجيه الفتاتين السوريتين اللتين شاركتا في العمل عبر تطبيقي سكايب وواتساب.
الأمل
تنغلق الدائرة مع نهاية الفيلم، حيث نعود إلى قصة ياسمين التي نجح زوجها في لمّ شملها أخيرًا، وهذه المرة نراها وأطفالها والأب في ألمانيا، ويركز السرد على الأب السعيد بوصول أبنائه عبر لقطات حميمية تسجل لحظات لا يمكن لأي عائلة نسيانها، ومن هنا تكون الدلالة العامة التي أرادت ميغان ميلان إظهارها عبر قصصها الأربع؛ وهي وجود الضوء في آخر النفق المظلم، ووجود الأمل.
ويرى المؤلف والناقد السينمائي رايان لاتانزيو أن قوة فيلم “بسيط كالماء” تكمن “في حياديته السياسية، وعدم تعليقه العلني على أزمة اللاجئين العالمية، حيث لا توجد لائحة اتهام للأفراد السوريين من أي من الجانبين. وبدل ذلك، كان لدى مخرجته مستوى من الوصول العميق والحميمي والألفة التي يمكن أن يأمل القليل من صانعي الأفلام في تحقيقها”.
وحسب لاتانزيو، ففي بسيط كالماء “تتشابك التضحية والأمل في لوحة مجمَّعة ومؤلفة بدقة تُظهر تحمل التفاني الأسري في ظل ظروف قاسية؛ حيث حب الأم لأطفالها يحل محل رفاهيتها، والتفاني الأخوي يتطلب السعي نحو العظمة، ولمّ الشمل يكافئ الأب بصبر أحبائه”.
ورغم أن فيلم “بسيط كالماء” وثائقي يسعى بالدرجة الأولى إلى توثيق حياة تلك العائلات وتسليط الضوء على معاناتها، فإنه لا يسمح للقطات التقريرية ذات الغرض التوثيقي بالطغيان على فاعلية السرد ودوره في إبراز الشخوص وقصصهم وحث المشاهد على التعاطف معهم، والنظر إليهم بوصفهم بشرا، بعيدا عن النظرة التقليدية التي تحاول وسائل الإعلام والأحزاب المختلفة إظهار اللاجئين بها بوصفهم أزمة وأرقاما.